أحبها حبا لا شبيه له فلا مزيد لحبه لها و لا مطمع فيه من مزيد و أخذه الشوق منها كل مأخذ فامتلأ قلبه من الشغف بها ومن الهوى بوجودها حتى أصبح يرى فيها ليله الذي يسهره و هواه الذي يتنفسه و أخذت معاناته تزداد و صبره ينفذ ففاضت نفسه بالحنين من غيابها وهي أمام ناظريه و احترق وجدانه من الصبابة بغرامها و هي تنسرب إنسراب الماء العذب بين يديه, و هو يتعذب و هي تتلذذ و هو يسعى إليها سعي الظمآن للماء و هي تتفلت منه تفلت النسيم العليل بين الأشجار و هي لا تبادله حبا و لا تشفق عليه من حيث هو رفيق درب دراستها و خزانة أسراره و دفا تر قصائده.
جاءني يوما شاكيا باكيا قائلا لي يا صاحبي لقد إنفلق كبدي و أختـنـقت دموعي في أجفاني و هزل جسدي من فرط الوجد و من ألم البعد فما أنا فاعل يا صديقي ما أنا فاعل؟
وكنت أعرف قصتهما ولكني لم أكن أظن أن صاحبته تفعل به أفاعيل لم تكن في الحسبان و هي التي عرفت به و عرف بها في مقاعد الجامعة حبا طاهرا عفيفا.
و روى لي المستور من حكايتهما بعد تخرجهما من الجامعة, فلقد تغيرت الأحوال بينهما فذبلت ورودهما و ارتخت علاقتهما فأصبح يقترب منها وهي تتهرب منه و يراسلها الفترة تلو الفترة و هي تفتر عنه و تجافيه و هو يقبل عليها بشغف و وجد و هي تتلكأ عنه و تتردد في الاستجابة له خالقة له ألف عذر وعذر, و كان يقص معاناته معها وهو يتأوه تارة ويبكي تارة أخرى, فوقع حزنه موقع الألم من حزني و لامست آهاته أوتار العذاب من أهاتي و كأنه يقص روايتي و يحكي حكايتي فقلت له يا صديقي ما العمل و ما ترى أنا فاعل لك وما حيلتي إلا كحيلتك.
فقال يا صديقي أكتب لها و أنت عهدي بك كاتب
أكتب لها بلساني و أبكي لها بدموعي و ترجاها بقلبي
و أبسط لها في الكلام فأنا لا أستطيع جرحها فجرحها يدمي قلبي و قلبي كما تعلم مجروح
فحكيت قصته في رسالة بعث بها إليها بلغة المستعطف الودود و كان أخر عهده بها.
فقال و هو يتكلم تارة بلسانه و تارة يسرد قصته بعينيه ... فكتبت عوضا عنه بقلبي و بقلمي
كان يا ما كان في نفسي ألم وفي قلبي اضطراب.. وفي روحي ثورة من الأحاسيس ومن المشاعر لفتاة َ رسمتهاَ يد القدر في مخيلتي وكنتُ وِفياً لها منذ الصبا رغم ما طرأ على حياتي من تقلبات، و لما وجدتها و لما لاقيتها وقد رأيتها ولامستْ روحي روحها و تعانقت الأشواق وذرف قلبي دموع اللقاء.
أما وَ اﻶن قد كشفتُ حبي لك و أذعت سرا دفينا بعد طول أمد بين يديك، فحق لي أن أصارحك عن حقيقة ما جرى لي من معانات طيلة السنين الخوالي وحق عليك أن تسمعيني و لك أن تحكمي بعد ذلك بما تشائين.
فلو حكيتُ يا ... فمن أين أبدأ الحكاية، فقصتي لها أكثر من حكاية و لها أكثر من بداية.
شاء القدر أن أبتلى و شاءت الأقدار أن أبتلى في أمر بعيد المنال و السير إليه شاق وطويل قد سبب لي و لغيري أﻵما و ظلما و تشاء الأقدار كذلك أن يكون ألابتلاء من طرف واحد و لا يعرف الطرف اﻵخر و الذي هو أنت مقدار الصعوبات التي كابدتها و الآلام التي تجرعتها.
نعم إنه الشتات بل إنها المعاناة بل إنها المعاناة المضاعفة، بربك لمن أشكو حالي، لمن أبث أسراري ثم من أشاركه همومي و تحزن لحزني و تفرح لفرحي من تهون عليَ ألم البعاد و قسوة الهجران فلاَ الذكريات ذكريات و لا المضارب مضارب و لا الطبيعة طبيعة، و قديما كان الشعراء يقفون على الأطلال لسبب واحد و هي تخفيف ألم الذكرى فتسري أشعارهم بين الوديان و التلال و الصحاري لتبلغ آذان المحبوبين فـتـنفرج الكروب و تهدأ النفوس و تطمئن القلوب, فكذلك كان قيس بن الملوح إذا اشتدت عليه المحن و طفح به الكيل و هزته ذكراه لليلى أخذته قدميه إلى مضارب الرعي في قبيلته ليتسلى بالماضي السعيد في المكان الذي كان يجمعه بها فيلقي قصائده تارة شاكيا ألم الهجر و تارة باكيا من فرط الوجد و مرة أخرى قساوة ذوي القربى.
أما أنا فحالتي لم تكن كالحالات فلقد كان سهري لوحدي و ألمي لوحدي و أشكو بعد ذلك لنفسي من نفسي ولما يبلغ العناء مني مبلغه فأجدني أبكي لروحي من روحي فتدفعني أوجاعي للاستغراق في عالم جديد هو عالمي الذي أنشأه لنفسي فأقرأ و احلم و ارسم في مخيلتي قصورا و حدائق و أغرس أشجارا و اسمي أجمل الورود في أمكنة اللقاء لتبق شاهدة ما تعاقب الليل و النهار على حب قد يولد هنا و ينمو هنا و تتفرع عروقه في قلبي فتبقى ثابتة راسخة ما دام ينبض و تسري فيه الدماء.
و لا ترتاح نفسي و لا يهدأ بالي حتى أترجم ما أشعر به اتجاهك إلى رسائل و خواطر و أشعار أأرخُ فيها لفترة من الضياع من حياتي و قد رأيتِ جانبا منها بعد دلك.
و قد حاولت مرارا الهروب من هذا الواقع فم استطعت، وأجهدت نفسي على النسيان فما أفـلحت، واستعملت كل الحيل لكسر هذا القيد المحكم فخارت قواي ووهنت عزيمتي وباءت محاولتي بالفشل، فأصبحتُ أجد عزائي في عذابي و راحتي في أشعاري و ترحالي، و لما تطول الأيام أحاول أن أتظاهر بالنسيان و عدم الاكتراث فما ألبث حتى أجد لـساني يردد دون سابق إنذار هذه ألأشعار
أنساك...
دا كلام...
أنساك...
يا سلام...
دا لمش ممكن يحصل أبدا...
دا مستحيل قلبي يميل
و يحب غيرك...
أبدا أبدا...
و لحسن الحض أني إنسان مؤمن وهب الله لي سعة الصدر و قوة التحمل وحببَ أليَ قراءة القرﺁن وكثرة الدعاء ففيهما أجد السلوى و العزاء وهما رفيقا الدرب فيما ابتليتُ به.
و مع هذا فحبي مستمر...
فماذا يعني الحب فيما يعني إذا لم يكن سهرا وصبابة وشوقا و جنونا.
واعلمي لو أني استدبرتُ أمري ما استقبلت و خيرتَ بين نساء العالم و لستِ أنتِ فيهم و من بينهم و بين حياة التـنـسك و الزهد لاخترت الثانية ذلك أن قلبي قال كلمته واختار طريقه فإن كان في الحياة ففي الحياة و إن كان في الآخرة ففي الآخرة حتى يحكم الله بيننا و هو خير الحاكمين.
لو تعلمين كم ألفت لك من قصائد, كم سهرت الليالي مكتحلا النوى غارقا في بحر الهوى داعيا الله أن يستجيب لقلب شغله حبا لم يجد له بلسما و لم ينفع معه دواء سابحا بمخيلته في عنان السماء يبحث عن السعادة و الهناء مع فتاة أحبها بصدق و وفاء.
و مع هدا الصبر فقد صبرت
وتدور الأيام وتشاء الأقدارَ أن يكون اللقاء وتكون الفرحة العارمة وأبعث من جديد.
ولا أتذكر أني سعدت مثلما سعدت بلقاء أحد مثلك.
نعم !!
إنها الأرواح الحالمة .
إنها القلوب الصادقة .
إنها النفوس المغتبطة التي تفكر في صمت عن السعادة التي تنشدها
بين تقلبات الأقدار و تعاقب الليل و النهار.
إنها البلابل المغردة في سماء الحرية تشدو أعذب الألحان و تهفو إلى الذكريات السعيدة في بساتين الحب و الهيام.
إنها أنتِ الحب الأبدي المرصع بألوان الطيف و المعطر بشذى الورود المتفتحة هنا وهناك في جنان الأرض و المرفرف بأجنحته في عنان السماء.
إنه أنا العاشق الولهان الذي يعيش بين نار الشوق و ماء الحنين ينتظر إشراق شمس الحرية لقلب مقيد بأغلال العبودية.
كانت لقاءاتنا في مرات كثيرة حميمة و هادئة عشنا فيها يا ما عشنا بقلبينا و سبحنا فيها يا ما سبحنا بروحينا و حلمنا يا ما حلمنا بنهاية مقدسة
تجمعنا فيها رابطة لا تزول.
لكن تدور الأيام و تتبخر الأحلام و يأتي الظلام بعدما ساد النور في ساحتنا حين من الدهر
كنت أأمل أن تقولي أي شيء أي كلمة أي جواب عما بحتُ به لكِ في رسائلي الأخيرة و ما كتبت لك من خواطر و ما أعلنت لك من أسرار عن مستقبلنا
لكن لا شيء...
أنها سنوات من المكابدة يا...
نعم إنها ثمان سنوات ألا تعني لك شيئا...
غفر الله لكِ...
لو كنتُ أنا ِمثلكِ و كنتِ أنتِ في مثل حالي و الله ما تركتـكِ تـتعذبين و لتمـثـلتُ قول نزار قباني بصدق حين قال:
متى ستعرف كم أهواك يا أملا أبيع من أجله الدنيا و ما فيها
لو تطلب البحر في عينيك أسكبه أو تطلب الشمس في كفيك أرميها
و أنا في خاطري لم أكن ِلأَطلبَ منكِ شيئا كثيرا بل يسيرا، كنتُ أريد إجابة بسيطة فقط بالسلب أو الإيجاب بلغة الأدباء أو الحكماء أو الفلاسفة أو الدبلوماسيين أو الرومانسيين أو حتى المتصوفة بأي لغة تريدين المهم عندي إجابة تريحني.
وقد كنت لمستُ فيك الشخصية المميزة و العقل الراجح، فاعتقدتُ أن تكون إجابتك لمن هم في مثل حالتي بما يلي:
بلغة الأدباء:
كان يمكن لكَ أن تلتزم بالكبرياء في الحب و تحفظ مشاعرك و أن العلاقة التي كانت بيننا سوف تبقى للأبد لكن الأقدار أرادت غير ذلك...
أرادت أن تفترق القلوب بعد لقاء و تدبر السعادة بعد دهر من الهناء
فتصبر يا ... لعل الله يأتي بالفرج
أما بلغة الحكماء:
أسمىَ معاني الحب أن يكون لله و إلا فله معنى ترابي و ما أبعد الثرى عن الثريا.
و أما بلغة الفلاسفة:
لست أدري أنحن متماثلان أم متناقضان والملاحظ في عالم الأسباب و المسببات أنه لا يوجد ترابط منطقي بيننا و لذلك دع الأمور للمشيئة.
أما بلغة الدبلوماسيين:
شكرا على المشاعر النبيلة اتجاهي فو الله أنت أهل لكل خير
وبلغة الرومانسيين:
ما أتعس منْ تحزن علية القلوب و تبكي عليه العيون و هو صامت لا يجيب، أو تبكي عليه الحياة بكاءها المألوف وهو شارد عن الوجود لأنه يعتقد أنه حب لا ينال، لذلك فأنا لا أدري أأحزن أو أسعد فالأمر أصبح عندي سيان.
أما بلغة المتصوفة:
للحب أحوال و عجائب بل هو استغراق و استرسال في السهر بالليل و تفكر بالنهار و الطريق الموصلة إليه هي المثابرة و المجاهدة وهذه المعاني في عرف العارفين بالله لا تكون إلا للمولى عز و جل. فيجدرُ بكَ أن ترى فيَ حالة من حالات التقرب إلى الله و وسيلة من وسائل اختبار الإيمان، فالإنسان إذا داوم على الذكر و الطاعات أحبه الله و من أحبه الله صخر له عباده فأحبوه، ألا ترى أني عبد من عباد الله ربما أجد شيئا ما اتجاهك.
و لما كان هذا هو الحال إذاً و لما كانت رسائلي القصيرة و الطويلة بلا جواب و ربما بلا اهتمام حينها تأكدتُ بأنه
الــــــسراب
فمعذرة يا ... ربما تجاوزتُ حدودي و بالغتُ في إظهار مشاعري و لقد تصورت أنْ تجري الحال على غير هذا السبيل بعد الذي كان.
فكلمتي لكِ هي:
إن كان هناك واحد يحبك في هذا العالم فهو أنا فرجائي أن لا تـنمحي الذكرى وأفضل خيط الوصال بيننا هو الدعاء و أفضل أوقاته هو تمام اكتمال القـمر ليلته الخامسة عشر فأنا أدعو لك بالستر و السعادة و أنت تدعين لي بالصبر،( و قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يحشر المرء مع من أحب وأنا أسأل الله أن يحشرنا جميعا في الجنة.
أما أنا يا ...
أما أنا...